عَمروُ بنُ الجَموحِ
" شيخٌ عزم على أن يطأ بعرجته الجنة "
عمرو بن الجموح زعيم من زعماء ( يثرب ) في الجاهلية
و سيَد بني ( سلمة ) المسوَدُ ، وواحد من أشراف المدينة و وذوي المروءات فيها ....
و قد كان من شأن الأشراف في الجاهلية أن يتخذ كل واحد منهم صنماً لنفسه في بيته ليتبرَك به عند الغدو و الرَواح .. وليذبح له في المواسم و ليلجأ إليه في الملمَات !!! .
و كان صنم عمرو بن الجموح يدعى ( مناة ) و قد اتخذه من نفيس الخشب ... و كان شديد الإشراف في رعايته ، و العناية به و تضميخه بنفائس الطيب .
***
كان عمرو بن الجموح قد جاوز الستين من عمره حين بدأت أشعة الإيمان تغمر بيوت
( يثرب ) بيتاً فبيتاً على يد المبشر الأول مصعب بن عمير ،
فآمن على يديه أولاده الثلاثة مُعوَذٌ ٌ ، و معاذٌ ٌ ، و خَلاَدٌ ، و تِربٌ لهم يدعى معاذ بن جبل ...
و آمنت مع أبنائه الثلاثة أمهم هند ، و هو لا يعرف من أمر ايمانهم شيئاً .
***
رأت هند زوجة عمرو بن الجموح ، أن ( يثرب ) غلب على أهلها
الإسلام وأنه لم يبقَ من السادة الأشراف أحد على الشرك سوى زوجها و نفرٌ قليل معه ...
و كانت تحبه و تُجِلُهُ و تشفق عليه من الموت على الكفر ، فيصير إلى النار .
و كان هو في الوقت نفسه يخشى على أبنائه أن يرتدوا عن دين آبائهم و أجداهم ، و أن يتبعوا هذا الداعية مصعب بن عمير ، الذي استطاع في زمن قليل أن يحول كثير من الناس عن دينهم و يدخلهم في دين محمد .
فقال لزوجته : يا هند ، احذري أن يلتقي أولادكِ بهذا الرجل
[ يعني مصعب بن عمير ] حتى نرى رأينا فيه .
فقالت : سمعاً و طاعة ، و لكن هل لك أن تسمع من ابنك معاذ ما يرويه عن هذا الرجل ؟
فقال : و يحكِ و هل صبأ معاذٌ عن دينه و أنا لا أعلم ؟ .
فأشفقت المرأة الصالحة على الشيخ و قالت : كلا و لكنه حضر بعض مجالس هذا الداعية ، و حفظ شيئاً مما يقوله .
فقال : ادعوه إليَ ... فلما حضر بين يديه قال : أسمعني شيئاً مما يقوله هذا الرجل ، فقال :
فقال : ما أحسن هذا الكلام و ما أجمله ؟! أوَ كل كلامه مثل هذا ؟!
فقال معاذ : و أحسن من هذا يا أبتاه ، فهل لك أن تبايعه فقومك جميعاً قد بايعوه .. سكت الشيخ قليلاً ثم قال :
لست فاعلاً حتى أستشير ( مناة ) فأنظر ما يقول .
فقال له الفتى : و ما عسى أن يقول ( مناة ) يا أبتاه ،
و هو خشب أصم لا يعقل و لا ينطق .
فقال الشيخ في حدة :- قلت لك لن اقطع أمراً دونه .
***
ثم قام عمرو بن الجموح إلى ( مناة ) – و كانوا إذا أرادوا أن يكلموه جعلوا خلفه امرأة عجوزاً ، فتجيب عنه بما يلهمه إياه – في زعمهم - ، ثم وقف أمامه بقامته الممدودة ،
و اعتمد على رجله الصحيحة ، فقد كانت الأخرى عرجاء شديدة العرج ، فأثنى عليه أطيب الثناء ثم قال :
يا ( مناة ) لا ريب أنك قد علمت بأن هذا الداعية الذي وفد علينا من مكة لا يريد أحداً بسوء سواك .. و أنه إنما جاء لينهانا عن عبادتك ...
و قد كرهت أن أبايعه – على الرغم مما سمعته من جميل قوله – حتى أستشيرك فأشر علي ، فلم يرد على ( مناة )
بشيء .
فقال : لعلك قد غضبت ... و أنا لم أصنع شيئاً يؤذيك بعد ... و لكن لا بأس ، فسأتركك أياماً حتى يُسكتَ عنك الغضب
***
كان أبناء عمرو بن الجموح يعرفون مدى تعلق أبيهم بصنمه ( مناة )
و كيف أنه غدا مع الزمن قطعة منه ، و لكنهم أدركوا أنه بدأت تتزعزع مكانته في قلبه ، و أن عليهم أن ينتزعوه من نفسه انتزاعاً ، فذلك سبيله إلى الإيمان .
***
أدلج أبناء عمرو بن الجموح مع صديقهم معاذ بن جبل إلى ( مناة )
في الليل ، و حملوه من مكانه و ذهبوا به إلى حفرة لبني ( سلمة ) يرمون فيها أقذارهم ، و طرحوه هناك ، و عادوا إلى بيوتهم دون أن يعلم بهم أحد ، فلما أصبح عمرو و دلف إلى صنمه لتحيَته ، فلم يجده فقال :
و يلكم ، من عدا على إلهنا هذه الليلة ؟! فلم يجبه أحد بشيء .
فطفق يبحث عنه في البيت و خارجه ، و هو يرغي و يزبد و يتهدد و يتوعد حتى و جده مُنَكَساً على رأسه في الحفرة ، فغسله ، و طهره و طيَبه و أعاده إلى مكانه و قال له :
أما و الله لو أعلم من فعل بك هذا لأخزيته .
فلما كانت الليلة الثانية عدا الفتية على ( مناة ) ففعلوا فيه مثل فعلهم بالأمس ، فلما أصبح الشيخ التمسه فوجده في الحفرة ملطخاً بالأقذار ، فغسله و طيَبه ، و أعاده إلى مكانه .
و ما زال الفتية يفعلون بالصنم مثل ذلك كل يوم ، فلمَا ضاق بهم ذرعاً ؛ راح إليه قبل منامه ، سيفه فعلَقه برأسه
و قال له :
يا ( مناة ) ، إني و الله ما أعلم من يصنع بك هذا الذي ترى ، فإن كان فيك خير فادفع الشرَ عن نفسك ، و هذا السيف معك .. ثم أوى إلى فراشه .
فما إن استيقن الفتية من أن الشيخ قد غطَ في نومه حتى هبُوا إلى الصنم ؛ فأخذوا السيف من عنقه و ذهبوا به خارج المنزل ، و قرنوه إلى قلب ميت بحبل ، و ألقوا بهما في بئر لبني سلمة تسيل إليها الأقذار و تتجمع فيها
فلما استيقظ الشيخ و لم يجد الصنم خرج يلتمسه ؛ فوجده مكباً على وجهه في البئر ، مقروناً إلى كلب ميت ، و قد سلب منه السيف ، فلم يخرجه هذه المرة من الحفرة ، و إنما تركه حيث ألقوه ،
و أنشأ يقول :
و الله لو كنت إلهاً لم تكن أنت و كلبُ وسط بئرٍ في قرَنْ
ثمَ ما لبث أن دخل في دين الله .
***
تذوق عمرو بن الجموح من حلاوة الإيمان ، ما جعله يعضُ بنان الندم على كل لحظة قضاها في الشرك ، فأقيل على الدين الجديد بجسده و روحه ووضع نفسه و ماله وولده في طاعة الله و رسوله .
***
وما هو إلا قليل حتى كانت "أحدٌ " ، فرأى عمرو بن الجموع أبناءه الثلاثة يتجهزون للقاء أعداء الله ، ونظر إليهم غادين
رائحين كأسد الشرى وهم يتوجهون شوقاً إلى نيل الشهادة و الفوز بمرضاة الله ، فأثار الموقف حميته ، وعزم أن يغدو
معهم إلى الجهاد تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لكن الفتية أجمعوا على منع أبيهم مما عزم عليه ...
فهو شيخ كبير طاعن في السن ، وهو إلى ذلك أعرج شديد العرج ، وقد عذره الله عز وجل فيمن عذرهم ، فقالوا له :
يا أبانا إن الله عذرك فعلام تكلف نفسك ما أعفاك الله منه ؟ ! .
فغضب الشيخ من قولهم أشد الغضب ، وانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوهم فقال :
يا نبي الله ، إن أبنائي هؤلاء يريدون أن يحبسوني عن هذا الخير وهم يتذرعون بأني أعرج ،
والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي
هذه الجنة .
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبنائه
(دعوه ؛ لعل الله عز وجل يرزقه الشهادة ) ...
فخلوا عنه إدعاناً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
***
وما أن أزف وقت الخروج حتى ودع عمرو بن الجموع زوجته وداع مفارق لا يعود ...
ثم اتجه إلى القبلة ورفع كفيه إلى السماء وقال :
اللهم ارزقني الشهادة ولا تردني إلى أهلي خائباً .
ثم انطلق يحيط به أبناؤه الثلاثة ، وجموع كبيرة من قومه بني "سلمة".
ولما حمي وطيس المعركة ، وتفرق الناس عن رسول الله صلوات الله عليه ،
شود عمرو بن الجموع يمضي في
الرعيل الأول ، ويثب على رجله الصحيحة وثباً وهو يقول :
إني لمشتاقٌ إلى الجنة ، إني لمشتاق إلى الجنة ...
وكان وراءه ابنه "خلاد" .
وما زال الشيخ وفتاه يجالدان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرا صريعين شهيدين على أرض المعركة ،ليس بين الابن و أبيه إلا لحظات .
***
وما أن وضعت المعركة أوزارها حتى أقام رسول الله صلى عليه وسلم إلى شهداء أحد ليواريهم ترابهم ،
فقال لأصحابه :
(خلوهم بدمائهم وجراحهم ، فأنا الشهيد عليهم ) .
ثم قال : ما من مسلم يُكلم في سبيل الله ، إلى جاء يوم القيامة يسيل دماً ، اللون كلون الزعفران ، والريح كريح المسك )
ثم قال :
( ادفنوا عمرو بن الجموع مع عبد الله بن عمرو ؛ فقد كانا متحابين متصافيين في الدنيا ).
***
رضي الله عن عمرو بن الجموع وأصحابه من شهداء " أحد " ،
ونور لهم في